حقيقة جرجي زيدان.. كان زيدان أول من عمد إلى تحقيق التاريخ وكأنه يصف تلك الفترة، لم يكن هناك ذلك البعد الذي يصنف الكتابة بأنها لا تصلح مرجعا تاريخيًا ولا يعتمد عليها في التاريخ، وإنما لإكمال الساقط مما خفي عن المعاصرين بالبحث والتنقيب في تلك الفترات.
ولكن كانت هناك إشكالية كرس لها والتر سكوت الكاتب الاسكتلندي الشهير بروايتيه «إيفانهو»، و «الطلسم» وكانت روايتيه تاريخيتان حتى أنه حصل منهما على لقب سير وأطلق عليه بسببهما لقب أبو الرواية الحديثة، وقد قيل مرة أن كل ألماني في برلين كان يأوي إلى سريره وهو يقرأ قصص سكوت الشهيرة ويتناول قهوته الصباحية متصفحا روايته الأخرى.
حقيقة جرجي زيدان
ولأن جرجي زيدان كان يجيد الكثير من اللغات فضلاً عن اللغة العربية، مثل اللغة العبرية والسريانية والفرنسية والإنجليزية، فقد قرأ زيدان هذه الروايات، وهنا راودته فكرة الكتابة التاريخية للرواية والتي مفادها كان تعليما للتاريخ.
وهنا كان الحديث ليس إبداعا خالصا يتدخل فيه زيدان بما يراه مما هو نابع من رؤيته في هذا الأمر، وإنما كان مرجعيتها التاريخ الحقيقي، لذلك كان لا بد له أن يتعرض للكثير من النقد.
وبالرغم من أن تأثير والتر سكوت في الأدب الروائي العربي كان كبيرًا وأن جرجي زيدان بصفة خاصة تأثر به تأثيرا كبيرا، ولكن كانت لجرجي رؤية خاصة، لماذا لا نكتب تاريخنا بشكل روائي يجعل في قراءته متعة؟، هكذا فكر جرجي زيدان.
وهكذا وضع نفسه تحت مقصلة النقد لاكتشاف أقل الثغرات التاريخية، فمن المعلوم للكتاب أن معظم التاريخ المكتوب حُرِّف بعد كتابته وأن هناك الكثيرين ممن كتبوا كانت لهم مصالح خاصة في كتابة التاريخ، لذلك وجد الإختلاف بين كتاب العصر الواحد في أجزاء عاشوها معا ولكن كل منهما كان يروي التاريخ من منظوره اللاحيادي.
حقيقة جرجي زيدان
أما عن نظرة زيدان للنقد فكانت نظرة عالم حقيقي فهو يرى أن انتقاد الكتب له فائدة عظيمة،وكثيرا ما أشاد بنقد أحدهم له، وربما كان موقفه من نقد الأب «لويس شيخو اليسوعي» لكتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» الذي نشره الأب في جريدة المشرق، في الجزء الثامن من السنة الرابعة عشرة فقد وصف زيدان نقد الأب شيخو أنه ” نم عن أدبه وفضله ودل على تمكنه من الموضوع”.
وكثيرا ما كتب جرجي يرجوا ممن يقع في أحد كتبه على خطأ أن ينبهه إليه ليستدركه في الأجزاء التالية.
وكان جرجي مهتما جدا بالرسائل التي تشرح أخطاء صغيرة وقع فيها، لذلك كتب في الجزء الرابع من “تاريخ آداب اللغة العربية” كثيرا من الاستدراكات والإصلاحات على ضوء الانتقادات التي نشرت حول الأجزاء الثلاثة السابقة، وسجل أسماء أصحاب الاستدراكات مثل الأب لويس شيخو، والاب انستاس ماري الكرملي، والشيخ أحمد السكندري، والكاشف الغطاء، وعيسى اسكندر المعلوف.
وبالرغم من كثرة الانتقادات فإن كتب زيدان راحت تروج نفسها بقوة، وترجمت إلى الكثير من اللغات، وكان رواجا لم يسبق له مثيل في اللغة العربية، حد أن قال عنه «إلياس زخورة» صاحب كتاب “مرآة العصر” ” لايفيد هنا مسألة ترجمة جرجي زيدان إلى غير اللسان الذي كتبت به، ولكن ينبغي التنويه إلى أنها وصلت إلى الترجمة الروسية والبرتغالية والألمانية، والكثير من اللغات وليس هناك غرابة في أن تصل أعمال زيدان إلى هذا التشعب، لأنه تفانى في كتبه حد أن الدارس الأوروبي كان يجد في كتبه تفاصيل كثيرة لا يجدها في غيره.
وليس كتب زيدان فقط التي تعتبر إسهامات حقيقية لفتح الطريق أمام الرواية التاريخية بشكلها الحالي، ولكن له إسهامات أيضا في جسد الثقافة العام، منها تأسيسه لمجلة الهلال عام 1892م والتي لازالت تصدر حتى يومنا هذا، وتعتبر صرح فكري حقيقي خلد اسمه على مر الأجيال، وتبقى في النهاية كلمة أن كل كتاب الرواية التاريخية العربية الذين أتوا بعد جرجي زيدان مدينين له لتمهيد الطريق أمام أقدامهم، ولعل أشهرهم كان محمد فريد أبو حديد والسحار ومحفوظ وغيرهم، ويبقى لزيدان السبق والريادة في هذا المضمار، فهو بلاشك رائد الرواية التاريخية الأول في مصر والعالم العربي.