أفرزت فترة الثلاثينات حتى نهاية السبعينات، جيل من الفنانين والفنانات، أثروا السينما المصرية بالعديد من الأفلام السينمائية الهامة، لعل أبرزهم، فاتن حمامة، سعاد حسني، نور الشريف، فريد شوقي، صلاح السعدني، محمود ياسين.
يبدو أن هذا الجيل بمثابة جيل الرواد الذين آمن بقضية الفن، ودوره في وقت كان يُنظر للفنان نظرة دونية، وبمرور الوقت أصبحوا جزءًا لا ينفصل عن واقع الحياة المصرية بكل متغيراتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، إلى أن نجحوا في تغير هذه النظرة.
لكن في السنوات الأخيرة، ومع ظهور جيل جديد في السينما المصرية أواخر فترة التسعينات، تزامن ذلك مع ظهور ردة فكرية تجاه نظرة الفنان للعمل في الوسط السينمائي، وعبّر بعضهم عن رفضه لدخول أولاده وعائلته للعمل في هذا الوسط، خوفًا على مخالفة أخلاق الطبقة الوسطى.
تعددت الأسباب التي يرفض الفنانون عمل أبناؤهم في الفن بناًء عليها، منهم من يرفض بسبب تعب المهنة وتقلباتها، خوفًا على أولاده من المصير المجهول، لكن ذلك لم يثر أية أزمة، السبب الثاني كان كافيًا لإثارة زوبعة ضد فنانين كبار بعدما أعلنوا رفضهم لعمل بناتهم بمهنة التمثيل خوفًا من أن تشارك في مشاهد رومانسية، حميمية، أو إغراء.
وما زاد من حدة الأمر، أن الفنانين الذين أعلنوا رفضهم لعمل أولادهم في الفن، من النخبة، شارك معظمهم في صناعة العديد من الأعمال السينمائية والدرامية المؤثرة.
أخلاق الطبقة الوسطى
الفنان عادل إمام صّرح في حواره لمجلة “زهرة الخليج” عام 2010، أنه يرفض عمل ابنته في التمثيل، لأنه يرفض أن تراها تُقبل من أحد الممثلين “معندناش ستات تشتغل في الفن”، وهو ما أثار حنق وحفيظة العديد من الكتاب والفنانين، إذ طالبوه أن يقبل ما يفعله في أفلامه السينمائية على بناته، بالإضافة إلى إشارات بأن آرائه رجعية.
كما اعترف “الزعيم” أنه يرفض عمل ابنته في الفن، لأنه رجل شرقي تربى بين أفراد الطبقة المتوسطة، لذا فهو يؤكد على أنه لن يسمح لابنته أن تعمل في الفن كي لا يقبلها أحد، وهي تربت على ذلك، بالإضافة إلى أنه رجل مصري، مسلم، لذا فهو يغار على حرمة زوجته وابنته وأخته.
ورد عادل إمام على من اتهموه بأنه يرضى بتقبيل الفنانات، ولا يرضه على ابنته، بأنه لم يجبر أي فنانة شاركت معه في أفلامه على القبلة إطلاقًا، فكل فنانة تقبل وترفض ما تؤديه بمحض إرادتها، خاصة وأنها تتقاضى أجرًا في النهاية على دورها الذي تجسده في العمل السينمائي.
ورغم أن بعض الفنانين والمخرجين، تامر حسني، خالد يوسف، محمد سامي، أكدوا له موهبتها الكبيرة، خاصة في الكوميديا، قطع الفنان ماجد المصري الطريق من بدايته أمام تفكير ابنته “ماهيتاب” للعمل في الفن، قائلًا، أثناء ظهوره في برنامج “شيخ الحارة” الذي قدمته الإعلامية بسمة وهبة على شاشة قناة “القاهرة والناس:”متقدرش تقول عاوزه اشتغل في الفن”.
ولم تختلف أسباب الفنان ماجد المصري عما صرح به الفنان عادل إمام، كونه رجلًا شرقيًا، كما أنه يخشى على ابنته أن تعود للبيت في وقت متأخر، وقال نصًا: “أنا راجل فلاح، وتربيت على كده، وتفكيري قديم”، لكنه لم يرفض عملها في أي مجال آخر.
وصرّح بأنه لا يمانع بأنه يوصف بالازدواجية في آراءه، ففي الوقت الذي يتكسب فيه من الفن، يرفض عمل ابنته في نفس المجال، كما يسمح لأولاده العمل في السينما، أحدهم مخرج والآخر شارك معه في مسلسل “آدم”.
وصرح الفنان أحمد السقا أثناء وجوده مع الإعلامي محمود سعد في برنامج “على ورق” على شاشة قناة “دريم” 2001، بأنه ضيق الأفق في هذه المسألة بالتحديد، و “ابن بلد” دمه حُر، ويرفض رفضًا قاطًعا أن تعمل ابنته في الفن، كي لا تظهر في مشاهد رومانسية وتُقبل من فنان آخر، رغم ما فيه من تناقض، كونه يقبل الفنانات في أفلامه منها “أفريكانو”.
وفسّر “السقا” سر رفضه، لأنه يرى أن استقبال الجمهور للقُبلات والمشاهد الرومانسية اختلف الآن، عما كان عليه فترة الخمسينات والستينات، فالجمهور في السنوات الأخيرة قد يدخل السينما لمشاهدة فيلم سينمائي بسبب المشاهد الرومانسية والقبلات، وحمّل أفلام فترة الثمانينات والتسعينات “سينما المقاولات” الوزر كونها رسّبت في العقل الباطن للجمهور هذه النظرة للمشاهد الرومانسية وما تتضمنه من قبلات ومشاهد عري.
وتوافقت نظرة الفنان سعيد صالح مع ما صّرح به “السقا”، فقد أعلن الفنان الراحل أثناء وجوده في برنامج “دون رقابة” 2009 الذي قدمته الإعلامية وفاء الكيلاني، على شاشة قناة “إل بي سي” اللبنانية، أنه يوافق على عمل ابنته في السينما فقط في الأعمال المحترمة، بعيدًا عن مشاهد القبلات، لأنه يدرك أن الجمهور يقبل على تلك النوعية من الأفلام.
وعلى الرغم من ذلك رفض في تناقض واضح، ما أدلى به الفنان عادل إمام من رفضه لعمل ابنته في السينما خوفًا من نفس المشاهد، لأنه يرضى بتقبيل الفنانات ويرفض أن تُقبّل ابنته.
قوانين الوسط الفني
فضَل بعض الفنانين الآخرين، عدم اشتغال أولادهم في السينما، الدراما، أو الغناء، خوفًا عليهم من وهج النجومية، و مآلاتها، وصراعات الوسط الفني وصخبه.
الفنان تامر حسني، الذي يشار إلى تلميحاته الجنسية في أغنياته الدعائية لأفلامه السينمائية كما في فيلم “كابتن هيما” 2008 الذي شاركته البطولة الفنانة زينة، ظهر وهو يغني كلمات أغنيته “طيبة قلبك”، يرفض أيضًا أن تعمل ابنته “تاليا” في الفن، لكنه أرجع ذلك إلى خوفه من صراعات وقسوة الوسط الفني وشروره. وذلك حسبما ذكر في الحلقة الثانية من برنامج “رحلة صعود” على شاشة قناة “إم بي سي”.
وأثناء وجود الفنان صلاح عبد الله في برنامج “100 سؤال” الذي قدمته الإعلامية راغدة شلهوب، عبّر عن رفضه لعمل بناته في الفن، خوفًا عليهن من قوانين الوسط الفني، ومعاناته وصراعاته.
تخلف وكارثة
المخرج السينمائي يسري نصر الله يرى أن الفنانين الذين يرفضون عمل بناتهم في الفن خشية المشاركة في مشاهد رومانسية، متخلفين، ورجعيين.
وشرح لـ”القصة”، الأسباب الأخرى التي قد تدفع الفنانين لرفض دخول أولادهم للعمل في الفن، وغالبيتها يكمن في الخوف من الصراعات وتقلبات صناعة الفن، وصعوده وهبوطه، فمثلما عانى الفنانين الكبار، أحمد زكي، محمود عبد العزيز، عادل إمام، وغيرهم، في بداية مسيرتهم، وتعرضوا لظروف قاسية ومؤامرات وأحيانًا العنصرية، وهو ما تعرض لها بعض الفنانين الحاليين، لذا يخشون على مستقبل أولادهم من هذه الظروف القاسية.
أما عما يرفضون لأسباب أخلاقية، فيرى أنهم بكل صراحة متخلفين ورجعيين، ولابد من أعادة وجهات نظرهم في تلك الآراء.
ويستبشر يسري نصر الله، بالأجيال الشابة من الفنانين الحاليين، ويرى أنهم ذو عقول تنويرية ومتفتحة، خاصة وأنهم يقدمون أعمال سينمائية جيدة، لذا يأمل أن تتغير هذه النظرة الرجعية للعمل في الفن التي ظهرت مؤخرًا بقوة.
الناقد السينمائي طارق الشناوي، يرفض وصف الفنانين للمشاهد الرومانسية وما تحويه من قبلات على أنها وصمة عار، تدفع الفنان على أن يتخذ قراره برفض عمل بناته في الفن، وألمح إلى تصريحات الفنان عادل إمام، ووصفها بأنه كارثة حقيقية، خاصة وأنه فنانين ذو قيمة كبيرة في السينما المصرية والعربية، كما أنه قبّل غالبية الفنانات اللاتي شاركن معه في أعماله السينمائية.
وفسّر لـ”القصة” بأن هذه النظرة الرجعية التي سيطرت على فكر بعض الفنانين، تعود إلى سيطرة قيم المجتمع المصري في الأساس، فهو ينظر بسلبية للفنانة التي تظهر في مشاهد القبلات والرومانسية، خاصة وأنه يصف هذه المشاهد بالبذاءة والانحلال، مهما كانت منطقيتها وسياقها الفني.
ويرى، أن هذه النظرة قد زادت بقوة في العشرين سنة الماضية، وأثرت بلا شك على صناعة السينما المصرية، إثر سيطرتها على قطاع كبير من عقول الفنانين، ويؤكد على أنها لن تتغير إلا إذا تغير فكر المجتمع المصري أولًا.
في نفس السياق أكدت الفنانة إلهام شاهين، على أن الأمر يرجع لحرية الفنان نفسه، سواء رفض أو قبل عمل أولاده في السينما، مهما كانت الأسباب التي دفعته لاتخاذ القرار، وهو ما لاقته من والدها في بداية دخولها للسينما، فقد حاول منعها من التمثيل، رغبة في أن تصبح طبيبة، لذا ترى أن كل فنان حر في أن يتصرف مع أولاده كما يشاء.
ولفتت في حديثها لـ “القصة“، إلى أن العديد من أبناء الفنانين الكبار، محمود ياسين، صلاح السعدني، فريد شوقي، يعمل أولادهم وبناتهم في السينما المصرية.